الجمعة، 2 ديسمبر 2011

استدراك على سلسلة ايكولوجيا المفاهيم

قبل حوالي 13 عاماً من اليوم كنت قد قدمت بحثاً بعنوان المنهاج الخفي للدكتور الراحل فاروق حمدي الفرّا رجل مبدع ومميز أعتز بأنني كنت تلميذه في يوم من الأيام، وقتها كنت قد كتبت عن الآثار التربوية للمنهاج غير المكتوب، أو المقروء كالصور المعروضة في الكتاب المدرسي، وما تتضمنه من إيحاءات، وإيماءات تربوية، تغرس القيم نقطة نقطة كالقطرة تترك أثرها في الصخر بفعل تكرار السقوط على ذات المكان رغم ضآلة وزنها، لكنها تحفر فيه بل وربما تحفره بفعل تكرارها، وأثناء بحثي في موضوع التغيير المفاهيمي كنت قد قرأت فيما قرأت عن مفهوم إيكولوجيا المفاهيم الذي كنت قد نوهت عنه في تدوينات سابقة، ونوهت إلى أثر ايكولوجيا المفهوم على الناشئة والأتباع، واليوم أحاول إسقاط هذه المفهوم على واقعنا المعاش في محاولة متواضعة لسبر فعل هذه الايكولوجيا فينا مع محاولة للاستدراك من أجل توضيح المفهوم حيث روجعت من  عدد من غير قليل من المتابعين حول مقصد ايكولوجيا المفاهيم التي تتحدث عنها تلك التدوينات.
كلنا يعرف عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس، كان أكثر أهل زمانه تنعماً قبل توليه الخلافة، ولما تولى الخلافة انقلبت حاله، وأصبح أكثر أهل الأرض زهداً وتقشفاً، أظن الخليفة الراشد الخامس قد وعى مصطلح ايكولوجيا المفاهيم أكثر مما نعيه نحن، فالرجل قد تولى الخلافة وهي تعج بالفساد الإداري إذ كانت لعائلة بني أمية امتيازات لا تحصى ولا تعد، ولا سبيل لإعادة الأمور إلى نصابها دون خلق بيئة مناسبة لتطبيق مفهوم الزهد، والتقلل من الدنيا، ولا جدوى من أي جهد في سبيل ذلك ما لم يبدأ الأمير بنفسه أولاً، فكان أول ما فعل لما سمع ضجيج موكبه أن أمر بضم موكبه كله إلى بيت مال المسلمين، وكان رضي الله عنه حازماً أمره على الإصلاح، وقد وجد على الحق أعواناً، وكان اتخاذ القرار من أول لحظة.
إن فعل عمر بن عبد العزيز خلق بيئة مناسبة لما نواه، فلما زهد هو قلّده خلق كثير من المسلمين، فلما بدأ بنفسه وقلده الصالحون استطاع بكل يسرٍ أن يقلص امتيازات بني أمية، وأن يصحح مساراً إعوج لسنوات قبله، فما لنا نرى اليوم قادة كانوا زهاداً قبل توليهم أمور المسلمين فلما تولَّوها زاد شرههم للحياة، وزاد حبهم للبهرجة، والمظاهر، وصار أغلب لباسهم لباس شهرة، وأغلب مسلكياتهم تقليد لسابقيهم ممن وصموا بالبذخ والإسراف، إن أخطر ما يحدثه ذلك من أثر هو الايكولوجيا الخاصة بمفهوم العمل العام، إن مواكب الكبراء، وكثرة مرافقيهم، والبهرجة التي تصاحبهم- توجد بيئة خصبة قوامها التنافس على الدنيا، والاهتمام بالمظاهر، كما أنها تنفر الناس إذ يكثر أن نسمع أن فلاناً كان يسكن في مكان كذا وكذا ويركب سيارة نوعها كذا وكذا، واليوم هو على حال غير تلك الحال، فتشيع الأحقاد من قبل العوام على أصحاب السلطان الجدد، ويتنافس أتباعهم على تتبع خطاهم، ويدفع هذا التنافس الأتباع ليغيروا اولوياتهم، وتنحرف بوصلة اهتماماتهم، وتتغير مفاهيمهم، فيحدث استبدال لمفهوم التضحية بمفهوم جني الأرباح، ويبدأ شياطين الإنس والجن يزخرفون القول ويزينون الباطل، ويوسوسون فتنقلب المفاهيم.
قد يستغرب البعض ما أقول لكن العليم بالتغيير المفاهيمي يعمل أن تغيير المفاهيم له العديد من الاستراتيجيات ولعل أشهرها وأذيعها صيتاً استراتيجية التعارض المفاهيمي، فعندما يناقض الفعل على الأرض ما درس لأعوام في الكتب والمحاضن المختلفة يبدأ "الطالب" أو المتربي، أو الجندي أو التابع يعرض مفهومه النظري على المفهوم المجسد واقعاً معاشاً، فإذا ما تعارض المفهومان وعجر المفهوم النظري عن تفسير واقع الحال، يبدأ المتربي أو التابع بالبحث عن بدائل لمفاهيمه الراسخة في ذهنه بحيث تتوافق مع ما نعيش، فإن كان مفرطاً في الثقة فسوف يرى أفعال قادته صواباً، ويبدأ في تقليدها معتقداً صحة انطباقها عليهم وعليه، وإن كان متمسكاً بالمفاهيم الأصيلة بدرجة كبيرة، ومعتقد صوابها بغض النظر عن تطبيق البعض لها فسوف يغير في أحسن الأحوال نظرته لقيادته، أما إن كان المتربي ناقماً فما أسرع أن تتولد لديه أحقاد ومفاهيم تربوية مناقضة ومناهضة للفكر الأصلي الذي تربى عليه وربما تولدت لديه انحرافات فكرية تدفعه لسلوكيات متطرفة، سواء متطرفة غلواً، أو متطرفة تفريطاً.

ليست هناك تعليقات: