الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الآنسة سلبية ماذا أنجبت؟!

عندما تقصر هامة أحدهم، أمامه حلّان: 
أن يرتدي كعباً عالياً يحاول أن يخفي فيه قصر هامته، أو أن يعيب الطول، ولهذا وجدنا من يقول كل طويل هبيل، ولم نجد أبداً من ينعت قصيراً بعيب، (مع اعتذاري لكل قصير قامة) فالقصير كما تقول جدتي قصير الذراع، وليس المقصود هنا أبداً القصر والطول الحسيين بل أسوق هذا المثل لألج فيه إلى موضوع غاية في الخطورة ألا وهو الحسد.
الحسد هو تمني زوال نعمة الغير كما تعرفون، واسبابه نفسية بالأساس، وهو من أنواع التفكير السبي إذ لا تجد انساناً ايجابياً يجيد الفعل واقع تحت تأثير الحسد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ من ثمانية أشياء اراها مجامع الشر كله، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، ولو تدبرت الثمانية واردت جمعها في كلمة واحدة لكانت السلبية، فالهم قعود أمام مشكلاتك، وتوقف عن مواجهاتها واحساس يخيم عليك بثقل ما تواجه، والحزن شعور بالاحباط إثر مصاب جلل، وهو وليد الهم والله أعلم، والعجز هو غياب القدرة على الفعل، والكسل غياب الإرادة، والجبن غياب الشجاعة، والبخل ضعف القدرة على التغلب على حب المال بالبذل والانفاق، وغلبة الدين كثرته حتى يعجز المرء عن سداده، وقهر الرجال قدرتهم عليك معنوياً أو مادياً نعوذ بالله منها جميعاً.
المهم أنها كلها تنجم عن نقص صفات ايجابية في الانسان، وأرى ولست أزعم أني على صواب مطلق بل كلامي يحتمل الصواب ويحتمل غيره، ولكنها خواطري ابثها إليكم، أرى ان الحسد يأتي غالباً من العجز والكسل، فالحاسد إما عاجز لا يمتلك قدرة على الفعل فيتمنى لو كانت لديه قدرة المقتدرين، ويتمنى لو زالت منهم لأنه لا يستطيع الإتيان بمثل ما يأتوا، والكسلان لا يمتلك إرادة توجه طاقته وتخرجه من سباته لينطلق بين الناس فيتمنى لو زالت من بين أيديهم، وهذين الصنفين يبذلان جهدهما (السلبي) في النيل من اصحاب القدرة والإرادة أو على الأقل تثبيطهم وثنيهم عمّا هم منغمسون في فعله أو عازمون عليه، وسبلهم في ذلك قذرة دنيئة قد تمتد للنيل من شرفهم، أو سمعتهم، أو الانتقاص من أعمالهم النبيلة، بل وأحياناً يصل الأمر إلى حد قلب أفعال الطهر عهراً والعياذ بالله.
فيا صاحب الفعل، أنت هدار امض حيث شئت وللحساد نار، والنور أنت تبثه فكن للخيرين نعم الفنار.

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

ايكولوجيا المفاهيم 3 "حداء يبث التفاني"

أحدهم في وزارة ما من وزارات السيادة، والريادة، أنبؤوه أنه سينقل، وأخبروه أين سينقل، أحدهم هذا له صديق في مكان عمله الجديد الذي سيتولاه بعد أيام تتجاوز العشرة بقليل، همس في أذن صديقه ليوقف العمل ويتباطأ في تنفيذ المهام، بدت أمور العمل في موقعه المنتظر قبل استلامه ميتة، بطيئة، تسير ببطء أو لا تكاد تسير، تذمُّرٌ ساد أركان المؤسسة من بطء العمل، جاء صاحبنا الهمام تسلم منصبه صبيحة الأحد ويوم الاثنين حُلَّت كل المشاكل، ودارت عجلة الانتاج بسرعة الريح.
ضحكة مجلجلة أسمع صداها في أعماقي، ينتظر صاحبنا أن يقول الناس أنه مصباح علاء الدين، أو ربما أنه الجني الراقد في ذلك المصباح، أو ربما هو من حبس الجني في مصباح علاء الدين، مريضة تلك الأنفس التي تتمحور حول ذواتها ولا تغادرها، فتوجه مصابيح الإنارة نحوها، وتبقي كافة الأركان مظلمة، ليكون صاحبها هو الرائد ومن حوله أتباع يكملون الصورة ويرسمون ملا مح صلاحه المصطنع.
قديماً قرأت أن القادة نوعان: نوع عملاق كبير لا يحب قيادة غير الكبار، ويرى قيادة الصغار تصغيراً له، ونوع لا يجيد إلاّ قيادة الصغار لأن حجمه صغير وأي كبير بجانبه يظهر تقزمه، فهو لا يبين إلا إذا ارتقى ظهور أتباعه.
يتذاكى بعضهم ويظن غيره بلا ذكاء، يكيد ويدبّر، ويصيح ويزمجر، وهو في أعينهم هباء، لأنه ما خرج من ذاته للحظة، بل ظل حبيسها، وقعد يراوح مكانه، وأوحى له وهمه أنه يحلق في السماء.
القيادة أيها الناس رعاية شئون الأتباع، والتفاني في البذل والعطاء. القيادة نصح ونصيحة، القيادة أن تأخذ بيد من معك وبإخلاص يتبعك، وترتقي به لمراتب علية، فيعلو وتبقى أستاذه، فإن علا فأنت قائده ومربيه، وإن دنا فأنت الملام وهذا تصغير لشأنك لأنك ما أفلحت بإحداث التغيير والإصلاح.
القيادة أن يشعر كل عضو في الجماعة أو المؤسسة أن له كيان، وأنه يملك سلطة وقراراً، وأنه جزء أصيل من بنيان العمل، وإلاّ فالغرق محتوم، والفشل ينتظرنا على أول ناصية.
سر النجاح حالة إلهام تسود، وهمة عالية تقود، وصدق وإخلاص تتلفحه فيكون أكفأ وقود، فتسير سفينتك تسابق الريح، ويصبح كل من معك قبطان، يجيد القيادة، ويدير الدفة وقت الحاجة، لكنه يعرف موقعه، ويؤدي مهمته، وتتكامل الجهود وتتآلف الأرواح فترتسم صورة تبعث في النفس سعادة الجمال، وفرحة الانجاز، وأصالة الانتماء، وتتوج القيادة رأس العروس بتاج العرفان، وتنسب الأعمال لأصحابها، وتبرز الأتباع، فتحرز الفضل، وتبث روحاً تثب لمهمة جديدة فيتواصل النجاح، ويستمر العطاء، وتبقى حالة الإلهام تحدو رفقاء الدرب فيكثر الرواحل، وتتقلص الإبل القاصية، وينسجم الركب خلف حاديه.

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

ايكولوجيا المفاهيم 2 "نرجسية تهشم الزرع"

بعد أن شرعت في كتابة تدوينتي وكنت قد بدأت كتابة قصة حقيقية لكنني عزفت عن الاستمرار في الكتابة لأن كثيراً من التفاصيل تزعج القارئ وحتى لا يتسلل إليكم الملل قرّرت أن أختصر ما وددت قوله في سطور.
تفاجئني ترتيبات أولويات "النخب" في مؤسسة ما في بقعة ما من بقاع الأرض هناك على قارعة قارة في زاوية صغيرة من زوايا الدنيا، وعلى شواطئ بحر ازرق اللون أمواجه تعلو حينا، وتهدأ حيناً، وفي رقعة تكاد تكون بحجم الزنزانة، تولى مولانا منصباً كبيراً واسعاً فضفاضاً، وبدأ يرتب أولوياته:
كتب صاحبنا مهامه الجسام التي ينوي انجازها، ووضعها لموظفيه في خانة واحدة "هام وعاجل" أولوية من الدرجة القصوى.
أولويات صاحبنا مكتب فخم، وأثاث، ومكيف يجلب الدفء لأسلوبه البارد في التعامل مع موظفيه، طلاء الغرفة لتضفي جمالاً يخفي قبح أسلوبه الرديء، زيارات ميدانية لمجالات عمله لم تخرج أبداً عن إطار العلاقات العامة والبهرجة، التصوير في كل حركة وسكنة والتفاتة، وفي صدر الصورة شخصه الكريم، وسيارة حديثة تليق بزياراته المباركة، وفاتورة اتصالات باسمه، وهاتف دولي في مكتبه، وضيافة ينص عليها ليغدق على زواره الكرام على حساب المؤسسة الكريمة، وليذهب العمل بعد كل هذا للحجيم.
يسر إليه موظفوه بخطط عمل فيها فطنة وذكاء لكي يكتشفوا ما تطويه عنهم مؤسسات نشاز قليلة هي لكنها تعمل خارج القواعد والمعايير، في لحظة تجلٍ، ورغبة عارمة في اظهار الفهم، والتذاكي يفصح بخططه المستدرِجة لمن يفترض به استدراجهم، وتأخذه رغبته العارمة في استجلاب الثناء، وإبراز قدراته وذكاواته المتعددة ويحكي لهم عن أسرار عمله المفترض بها أن تظل طي الكتمان، والتي تقتضي أبجديات الحكمة اخفائها.
عارٌ علينا أن نتصدر في الناس ونحن لم نجاوز مرحلة التمركز حول الذات لا نرى إلا أنفسنا ولا نرى واجباتنا إلا من خلالها، نرجسية طاغية، ننظر إلى الدنيا في بئر سحيقة تبدو على صفحتها صورة الأشياء، لكننا لا نرى على صفحة ماء البئر إلا صورتنا فتصبح كل الأشياء نحن، ونحن كل الأشياء، فيكون الحلول وتكون المراوحة.
تلك حالة عايشتها ورأيت لها نماذج كثيرة تتفاوت في تمركزها حول ذواتها لكنها قاتلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، عندها تنتقل عدوى الظهور إلى الأتباع، وفي أحسن الأحوال تغتال الدافعية على أعتاب نرجسية واهية واهمة لقائد يحب المرايا، ويعشق الصور وتقتله رؤية شخوص غيره، ومعايشة الواقع، يبث في بيئة العمل أمواج الاحباط، ويغرس في أرض الفلاحة بذور الأنانية فتستحيل آفة شريرة تغتال المحصول من جذوره، وينخر السوس في ثماره فيصبح هشيما تذروه الرياح.

الأحد، 11 ديسمبر 2011

ايكولوجيا المفاهيم (1) مقدّمات هدّامة


"حُكي أن ابنة عمربن عبدالعزيز دخلت عليه تبكي و كانت طفلة صغيرة انذاك و كان يوم عيد للمسلمين فـسألها ماذا يبكيك؟ قالت:
كل الأطفال يرتدون ثياباً جديدة و أنا ابنة أمير المؤمنين أرتدي ثوباً قديماً فـتأثر عمر لبكائها و ذهب إلى خازن بيت المال وقال له أتأذن لي أن أصرف راتبي عن الشهرالقادم ؟
فقال له الخازن:
ولم ياأمير المؤمنينْ ؟ فـحكى له عمر فقال الخازن: لا مانع، ولكن بشرط، فقال عمر: وما هو هذا الشرط؟؟
فقال الخازن:
أن تضمن لي أن تبقى حياً حتى الشهر القادم لتعمل بالأجر الذي تريد صرفه مسبقا فتركة عمر وعاد فسأله أبنائه : ماذا فعلت يا أبانا؟
قال:
(أتصبرون و ندخل جميعاً الجنه أم لا تصبرون ويدخل أباكم النار؟ قالوا: نصبر يا أبانا !)" أهـ
قصة قصيرة، لكنها تستدعي وقفات:

الوقفة الأولى: كيف تجرّأ الخازن على قول ذلك لعمر، وقبله بأيام، أو أشهر على أبعد تقدير كان الأمراء يأخذون من بيت مال المسلمين بلا حساب، ذلك أن مدة حكم عمر لم تزد عن سنتين اثنتين؟
الجواب البديهي أن عمر تصرف ومنذ البداية بتورع، وأظهر منظومة قيمية صارمة تؤكد على الشفافية والنزاهة والحرص على المال العام، وأن مصلحة الأمة والشرع مقدمة على كل مصلحة، وأن الحق أحق بالاتباع مع الشريف قبل من هم دونه، إنها ايكولوجيا المفاهيم، بيئة ايمانية يأمن فيها الموظف المؤتمن على ماله وموقعه حتى لو وقف في وجه أصحاب السلطان، وذوي النفوذ وأصحاب العلاقات.
الوقفة الثانية أن عمر كباقي البشر يضعف أمام دموع ابنته، ويتمنى لو أسعدها لكن.. لا تتميز عمن سواها من الناس لمجرد أنها ابنة أمير المؤمنين، وهذا السمو العمري، الذي تنبه بمجرد تذكرة من خازن، فكم من فقير له ابنة بمثل حالها لن تفرح، ولن ترتدي ثياباً جديدة، ولن يستطيع أباها أن يقترض راتب شهر قادم هذا إن كان له راتب أصلاً، إنها بيئة العدالة وتكافؤ الفرص، بيئة مفاهيمية تشعر النفس بالرضا ولو قلت معها ذات اليد، ذلك أن الراعي يعيش معاناة الرعية، فلا تغيب معاناتهم عن قلبه ووجدانه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم"
الوقفة الثالثة: ما الذي جعل البنت ترضى وتكفكف دموعها، وتصبر؟ وتترك ما عز عليها، وبكت من أجله، تترك رغبتها في ثياب جديدة ظنتها فرحة العيد؟
إنه الارتباط بالله، وطلب جنته، انها مفاهيم مفهوم البقاء والفناء، ومفهوم الزهد في الفاني طلباً للباقي، إذ لا سبيل إلى الوصول إلى تلك المراقي والمراتب العليّة إلا بالإيمان بالله وطلب ما عنده اعتقاداً جازماً صادقاً لا ادّعاءً زائفاً يسقط عند أول اختبار، تلك أركان بيئة لا يشوبها خوف، فتُصرَف أموال المسلمين طلباً لأمن مفقود، ولا تشوبها أحقاد لأن رأس الهرم يعيش حياة البسطاء لا حياة المرفّهين فيبقى قلبه الطيب حياً نابضاً عمرياً قريباً من نبض شارعه، ويبقى الناس يحبونه وينافحون عنه لا تملقاً بل حباً صادقاً راسخاً ذلك أنهم يشعرون أنه منهم، وأنهم منه.

همسة

ما أحوج قاداتنا اليوم إلى الانتباه إلى البيئة المفاهيمية التي تخلقها تصرفاتهم، وإلى أفق واسع يستبصر امتداد تصرفاتهم وتصرّفات بطانتهم على نفسيات الأتباع، والعوام، وكيف يمكنها أن تخلق بيئة تشيد بنيان المؤسّسة الحاكمة وتدعم أركانها، أو بيئة تقوّض متانة البنيان، وتهدم أركان السيادة.

الخميس، 8 ديسمبر 2011

أفلا اقتحم العقبة


تفتح أبواب الفشل عندما نجلس على قارعة الطريق، ننتظر من يزيل منها المتاريس لنمر، أو عندما نقف على الأبواب الموصدة ننتظر قادما من بعيد يفتح لنا لنعبر.
 التسويف، والاتكال.. داءان قاتلان رأيت العديد من الناس يقع فيهما، فقد يطول انتظار صاحبنا ولا يأت من يمر ليفتح له الأبواب أو يزيل له المتاريس، فيقوم بعد فوات الأوان ليزيلها بيديه، أو يفتحها بنفسه، ويمر دون عناء، ولو أنه تدبر لاختصر الزمن، وفعل ما ليس منه بد، فحصّل ما فات، وتجنب نوبات الندم.
فإياك أخي الحبيب أن تنتظر فارسَ أحلامٍ، أو بطلاً منقذاً يأتيك من أعماقِ التاريخ ليسطر صفحات مجدك المنتظرة، وكم تغنّى المسلمون بصلاح الدين، ونادوه ليأتي يعيد أمجاداً قد ضاعت في محاولات مستميتة أو قل ميتة لتعويض نقص لحق بنفسياتهم جراء واقعٍ فرضته غطرسة معتد تطاول بحبل من الله وحبل من الناس، ولو أنهم انشغلوا بتربية صلاحهم وأعدوا من أبناء يقظتهم بطلهم الخاص، لقرب الفجر ولغدا النصر على مرمى حجر، فعش واقعك وجهز نفسك لمعركة الحياة ولا تنتظر من يمهِّد لك الطرق حتى لا تتعثر بغلتك فإن عمر قد مات، وكم من عمر مر على الأمة كعمر، وسل التاريخ يخبرك ألا عمر سوى عمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، ومَن بَعدهم تقصر قاماتهم عن ملاحقة الكبار.
وقد قيل كثيراً ما حك جلدك مثل ظفرك، وعظام الأمور يبدأ انجازها بخطوة صغيرة تخطوها، ولقد خاطب الله بني إسرائيل فقال لهم ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، ولو استفتحوا لفتح لهم، لكنهم ترددوا، وما اقتحموا، وما كان الأمر يتطلب أكثر من مجرد الدخول، وتدبر قول الله تعالى أفلا اقتحم العقبة، فكل المطلوب تجاوز القعود واقتحام عقبة الكسل والرقاد، والنهوض للعمل وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان والنجاح في خطوة صغيرة يولِّد همةً عاليةً تقود لخطوة أكبر وهكذا حتى تعود همتك لا تطاولها قمة، ولا تقنعها صغار التلال فتعشق صعود الجبال، وتعانق سكنى الربا، فترتقي مراقي العظماء، وتطل على الكون من علٍ وتتلألأ جبهتك بنور الإيمان، وتزين قمة الجبال أخلاقك العالية فتغدو قبلة ومنارة لكل مهتدي، وليس أجمل من تقيٍ في الصدارة، ومؤمنٍ يقود.

أحمد أبو ندا

2/8/2011م – 26/11/2011م

الجمعة، 2 ديسمبر 2011

استدراك على سلسلة ايكولوجيا المفاهيم

قبل حوالي 13 عاماً من اليوم كنت قد قدمت بحثاً بعنوان المنهاج الخفي للدكتور الراحل فاروق حمدي الفرّا رجل مبدع ومميز أعتز بأنني كنت تلميذه في يوم من الأيام، وقتها كنت قد كتبت عن الآثار التربوية للمنهاج غير المكتوب، أو المقروء كالصور المعروضة في الكتاب المدرسي، وما تتضمنه من إيحاءات، وإيماءات تربوية، تغرس القيم نقطة نقطة كالقطرة تترك أثرها في الصخر بفعل تكرار السقوط على ذات المكان رغم ضآلة وزنها، لكنها تحفر فيه بل وربما تحفره بفعل تكرارها، وأثناء بحثي في موضوع التغيير المفاهيمي كنت قد قرأت فيما قرأت عن مفهوم إيكولوجيا المفاهيم الذي كنت قد نوهت عنه في تدوينات سابقة، ونوهت إلى أثر ايكولوجيا المفهوم على الناشئة والأتباع، واليوم أحاول إسقاط هذه المفهوم على واقعنا المعاش في محاولة متواضعة لسبر فعل هذه الايكولوجيا فينا مع محاولة للاستدراك من أجل توضيح المفهوم حيث روجعت من  عدد من غير قليل من المتابعين حول مقصد ايكولوجيا المفاهيم التي تتحدث عنها تلك التدوينات.
كلنا يعرف عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس، كان أكثر أهل زمانه تنعماً قبل توليه الخلافة، ولما تولى الخلافة انقلبت حاله، وأصبح أكثر أهل الأرض زهداً وتقشفاً، أظن الخليفة الراشد الخامس قد وعى مصطلح ايكولوجيا المفاهيم أكثر مما نعيه نحن، فالرجل قد تولى الخلافة وهي تعج بالفساد الإداري إذ كانت لعائلة بني أمية امتيازات لا تحصى ولا تعد، ولا سبيل لإعادة الأمور إلى نصابها دون خلق بيئة مناسبة لتطبيق مفهوم الزهد، والتقلل من الدنيا، ولا جدوى من أي جهد في سبيل ذلك ما لم يبدأ الأمير بنفسه أولاً، فكان أول ما فعل لما سمع ضجيج موكبه أن أمر بضم موكبه كله إلى بيت مال المسلمين، وكان رضي الله عنه حازماً أمره على الإصلاح، وقد وجد على الحق أعواناً، وكان اتخاذ القرار من أول لحظة.
إن فعل عمر بن عبد العزيز خلق بيئة مناسبة لما نواه، فلما زهد هو قلّده خلق كثير من المسلمين، فلما بدأ بنفسه وقلده الصالحون استطاع بكل يسرٍ أن يقلص امتيازات بني أمية، وأن يصحح مساراً إعوج لسنوات قبله، فما لنا نرى اليوم قادة كانوا زهاداً قبل توليهم أمور المسلمين فلما تولَّوها زاد شرههم للحياة، وزاد حبهم للبهرجة، والمظاهر، وصار أغلب لباسهم لباس شهرة، وأغلب مسلكياتهم تقليد لسابقيهم ممن وصموا بالبذخ والإسراف، إن أخطر ما يحدثه ذلك من أثر هو الايكولوجيا الخاصة بمفهوم العمل العام، إن مواكب الكبراء، وكثرة مرافقيهم، والبهرجة التي تصاحبهم- توجد بيئة خصبة قوامها التنافس على الدنيا، والاهتمام بالمظاهر، كما أنها تنفر الناس إذ يكثر أن نسمع أن فلاناً كان يسكن في مكان كذا وكذا ويركب سيارة نوعها كذا وكذا، واليوم هو على حال غير تلك الحال، فتشيع الأحقاد من قبل العوام على أصحاب السلطان الجدد، ويتنافس أتباعهم على تتبع خطاهم، ويدفع هذا التنافس الأتباع ليغيروا اولوياتهم، وتنحرف بوصلة اهتماماتهم، وتتغير مفاهيمهم، فيحدث استبدال لمفهوم التضحية بمفهوم جني الأرباح، ويبدأ شياطين الإنس والجن يزخرفون القول ويزينون الباطل، ويوسوسون فتنقلب المفاهيم.
قد يستغرب البعض ما أقول لكن العليم بالتغيير المفاهيمي يعمل أن تغيير المفاهيم له العديد من الاستراتيجيات ولعل أشهرها وأذيعها صيتاً استراتيجية التعارض المفاهيمي، فعندما يناقض الفعل على الأرض ما درس لأعوام في الكتب والمحاضن المختلفة يبدأ "الطالب" أو المتربي، أو الجندي أو التابع يعرض مفهومه النظري على المفهوم المجسد واقعاً معاشاً، فإذا ما تعارض المفهومان وعجر المفهوم النظري عن تفسير واقع الحال، يبدأ المتربي أو التابع بالبحث عن بدائل لمفاهيمه الراسخة في ذهنه بحيث تتوافق مع ما نعيش، فإن كان مفرطاً في الثقة فسوف يرى أفعال قادته صواباً، ويبدأ في تقليدها معتقداً صحة انطباقها عليهم وعليه، وإن كان متمسكاً بالمفاهيم الأصيلة بدرجة كبيرة، ومعتقد صوابها بغض النظر عن تطبيق البعض لها فسوف يغير في أحسن الأحوال نظرته لقيادته، أما إن كان المتربي ناقماً فما أسرع أن تتولد لديه أحقاد ومفاهيم تربوية مناقضة ومناهضة للفكر الأصلي الذي تربى عليه وربما تولدت لديه انحرافات فكرية تدفعه لسلوكيات متطرفة، سواء متطرفة غلواً، أو متطرفة تفريطاً.