الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

قوس قزح


في غرفة من غرفات قسم الجراحة بمشفى الشفاء بغزة، يرقد مريض ستيني على سريره، ويلتفُّ من حوله زوجته وأبناؤه، يكتم المريض أنّاتِه كعادته لا يريد أن يشعر عائلته بما يعانيه من ألم، وتوجع، نظراته تشخص للسماء أحياناً وتقر حيناً، نوبة من الربو تداهمه، يهم أحد أبنائه بالذهاب للبيت لإحضار بخاخة الربو، يخبر المريض ولده بأنه لا حاجة له بتلك البخاخة، ويقول له "احنا مش مطولين، عدنا روحنا"
صوت آذان العصر يرتفع، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، يردد المريض وعائلته خلف المؤذن، حي على الصلاة حي على الصلاة، يرمق الأبناء آباهم وهو يبدو منهكاً تعباً، ينظر الوالد إليهم في حنان، الصلاة يا أولادي الصلاة الصلاة، اذهبوا وصلوا العصر في المسجد، ينظر الأولاد إلى أبيهم في عطف وإشفاق، حاضر يا أبتاه سوف نصلي الآن، يستمر الأب في كتم أناته، والأولاد والزوجة يراقبون، تقام الصلاة، الله أكبر الله أكبر، ..قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الصلاة يا أولاد، الأولاد مشفقون على أبيهم الخارج تواً من العناية المركزة، ويتعللون رغبة في البقاء معه، زوجته تحثه على الصلاة، فينوي ويصلي وهو مضطجع، وولده يلقنه الشهادة فينطقها، عينا المريض تشخصان، تنظران إلى السماء، يتشبث الوالد بحافة النافذة بجانب سريره، يظن ولده أنه قد تشنج، يرفع يده ينظر إليه الأب معاتباً، يترك الولد يد والده، ترتخي يد الوالد المريض، ويخرج من فمه زفير، وتشخص عيناه تنظران إلى السماء، يهرع الأولاد ينادون الطبيب، يغلق الطبيب عينا المريض، ويقول لهم عظم الله أجركم.
كانت تلك لحظات يوم الثامن والعشرين من نوفمبر عام 2004 يوم وفاة والدي وكانت تلك لحظاته الأخيرة، خاتمة خير إن شاء الله، اللهم أدخله الجنة دون حساب ولا سابقة عذاب.
نكتة طريفة:
قد يستغرب البعض عنوان التدوينة رجل يتحدث عن موت والده ثم يسمي خاطرته قوس قزح، لا تستغربوا فقد اعتدت كتابة عنوان أي تدوينة بعد انتهائها، ذلك أن خاطرتي تسير بحسب مسار خاطري، أترك لها العنان، ثم بعد انتهاء توارد الأفكار وتدفقها أصعد إلى العنوان أعنونها بعد اكتمالها، وقد حاولت كتابة عنوان لتدوينتي فخطر لي ان أسميها خط الحياة/ الموت، ثم عدلت لأسميها طيف مقيم ذلك أن طيف والدي لا يفارقني، فتأملت فوجدت قوس قزح خطاً سامقاً كما كان والدي دوما سامياً بأخلاقه، ووجدته يمثل خطاً يرمز لخط الفصل بين الحياة الدنيوية وحياة البرزخ، ثم ألوان الطيف ترمز إلى طيفه المقيم بيننا فكان هذا هو سر  تسميتها.

السبت، 26 نوفمبر 2011

السلبية الإيجابية


بعضهم سيلوكك حتى لو استقمت على الأمر أقصى جهدك، وسيحيل أفضل سجاياك عيوباً، لا لشيء إلا لأنه من الحاسدين، لا تتعجب ولا تستغرب فليست كل القلوب سوية، وليس كل الناس أصحاء النفس والطويّة، فكما أن هناك أمراضاً تصيب البدن فهناك أمراض تصيب القلوب، لقد فعلوا ذلك مع خير خلق الله قاطبة، ألم يطعنوا النبي صلى الله عليه وسلم في عرضه، وفي قسمته، وفي عدله، بل وألّبوا عليه جنده، وفرقوا جمع جيشه، فلعل المضي في الطريق والتهيؤ لتلك الأشواك من أهم ما يعد للسفر، فأصحاب الأهواء لا شغل لهم سوى قلب الحقائق، فهم يبدلون مواقع الخلق بحسب ما تملي عليهم أوهامهم المريضة، ويسقطون أعراض أمراضهم على من يحتك بهم، عساهم يجدوا من يؤنسهم في وحشتهم في عالم الرذيلة الذي يقبعون فيه، وأصحاب المبادئ لا يضيرهم ذلك بل يشرّفهم أنهم مع النبيين والصديقين والصالحين، في الاستهداف سواءً بسواء، وانظر إلى أطهر خلق الله في الأرض كيف شُوِّهوا واتهموا بأقذع التهم من قبل أعدائهم وكلما زاد نقاء معدنك، وارتفع منسوب طهرك، وسمت في العلياء روحك، وخبثت في مقابل ذلك نفس عدوك، وانحطت شيمه وأخلاقه، وانعمس في الرجس حتى أذنيه، كلما كانت الافتراءات عليك أكبر، وكان البهتان الموجه لك أعظم، وكلما كانت الحرب معهم أشد وطأة وأقذر وسائل، وأرذللُ سبلاً.

فيا داعي الخير لا تلتفت، وتظاهر بالصمم، وامض فإن ذلك قاتلهم، وهو خير رد، فما فعلوا ما فعلوا إلا ليوقفوك، وما يغيظهم مثلُ مُضيُّك، وتذكر أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر أبا بكرٍ بأن ملكاً وُكِّل بالرد عنه لما صمت، ولما ردّ انصرف الملك وجاء الشيطان، فيكفي أن يكون لك عدواً من شياطين الإنس فلا تستدعي شياطين الجنِّ بردودك، ودع ملائكة الرحمن يذودون عنك فيكفيكهم الله بتوكُّلك عليه، وتنتصر وينهزمون، و تصل ويعلقون، والموفَّقُ من وفقهُ الله.

الاثنين، 21 نوفمبر 2011

أسترضيك يا حبيباً هجرته أياماً...

ليست الحالة كما كانت..
لست دري ما سر توقفي عن الكتابة فجأة، ولا سر انقباض صدري دون مبرّر.. 
لكن لا رغبة لدي في الكتابة كما كنت قبل أيام، رغم أني أنهيت معظم ما جدولت من مهام، ومن المفترض أن يشكل كل هذا لدي دافعاً وباعثاً لمزيد من العمل، والتوقد، لكنني أشعر أنني لست في الحالة التي كنت عليها قبل فترة وجيزة.
أشعر بتشتت غريب، وأجدني مبعثراً ومتشظياً، ولا أدري لذلك علة، ولا سبباً، أراني كأوراق منثورة على مكتب رجل شعره منكوش، وعيناه شاخصتان، ينظر لكن لا يرى شيئاً، وفي رأسه ألف حكاية وحكاية، وفي ذاكرته ألف قصة هزلية، يحمل هموم الارتقاء، وكلاليب التخلف تنهشه على جانبي صراط التطور، وذئاب البر تتربص بأسرار قوته، مشتّت مبعثر منثور، لكن ما يواسيني أنها صفات الذهب قبل استخلاصه عندما يكون بين الصخور، وعندما يمتحن المعدن يتميز الغث من السمين، ويطفو الخبث، وينقى التبر، وأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
من أعجب ما وجدت من تجربة الكتابة وتفريغ الخواطر، أنني أحياناً أمر بحالة نفسية لا أدري سببها سواء كانت سارة أو غير ذلك، وما أن أبدأ بالكتابة حتى تبدأ رموز وطلاسم تلك الحالة بالتفكك، وتصبح سهلة القراءة ميسورة الفهم، وتتداعى الأفكار دون سابق ترتيب، فتتبين لي أسباباً كنت أجهلها، واصبح على دراية بالفعل بما أمرّ به حقاً، وتستصحبني حالة من الفهم أعمق، لما كان يدور في عميق نفسي، وكنت عنه غافلاً، وله جاهلاً.
الكتابة نعمة لا يدرك أسرارها إلا من غازلها، واعتاد على وصالها، فهي محبوبة مخلصة، تعطي أكثر مما تأخذ، وهي صريحة في غاية الصراحة، تبوح لك بأسرار نفسك وتخبرك عنك ما كان خافياً عليك، فحق لها أن تتربع عرش القلب بلا منازع، لأنها أجود من يفهمه، وأفصح من يتحدث باسمه، فهي تعرف مكانها، ومكانتها، وامكاناتها، فقد تمكنت مني أيما تمكن، ولست أقوى على العيش بدونها، وأجدني مرغماً على الاعتذار لصديقتي الكتابة عن هجراني لها.
عذراً قلمي فلست أنساك، ولست أهجرك، فأنت خير رفيق، وأوفى صديق لا تتكلم إلا بما أريد، ولا تبوح إلى بما أشير عليك به، ولست تكتب شيئاً يغضبني، بل أنت متنفسي، وأنت سلواي، وأنت رفيقي.

الخميس، 17 نوفمبر 2011

إيكولوجيا المفاهيم 'Concepts Ecology' من منظور تربوي


المفهوم هو تجريد لمعنى ملموس، فكل شيء حولنا له اسم مجرد يعبر عن عنه، وهو يتكون من مصطلح، وعبارة تدل على هذا المصطلح وتشرح مدلوله، وهو ما يعرف بالعلوم الطبيعية بالتعريف للمصطلح.

 وهذه المفاهيم تترجم في العقل إلى معان، وهذه المعان يتفق عليها بين مجموع الناس، لكن كلما زاد المفهوم تجريداً وبعداً عن الملموس كلما زاد تنوع فهمه، والاختلاف في مدلولاته، حيث تؤثر بيئة كل فرد منا في تصوره للمفهوم بشكل أو بآخر.
فعلى سبيل المثال لو أخذنا مثلاً مفهوم التنقية لوجدناه يختلف من إنسان لآخر، فالتنقية عند البنّاء تعني تخليص خلطة الأسمنت من الحصى، وعند بائع الماء تعني تخليص الماء من الشوائب، ومطابقة نسب الأملاح فيه للمعايير الصحية العالمية، وتنقية الذهب تعني صهره، وتنقيته من العناصر الأخرى، والتنقية عند الطبيب تعني تخليص الجسم من الجراثيم، والميكروبات الضارة، وهكذا تختلف مدلولات المفهوم باختلاف بيئته، ويطلق على هذا المعنى ايكولوجيا المفهوم.
هذا المعنى أو المفهوم له تطبيقات واسعة في التربية، والمناهج خصوصاً المناهج العلمية، لكن تطبيقاته في الحياة اليومية أيضاً واسعة المدى، وسأشرع في قادم الأيام في الكتابة حول تطبيقات هذا المفهوم في التربية الاجتماعية والسياسية، والأخلاقية، من خلال تأملاتي في واقع الحال، وسيرة السلف، سائلاً المولى عز وجل أن يفتح لي أبواباً موصدة، وأن أستطيع أن أطأ أرضاً بكراً لم يتطرق لها المفكرون والتربويون بهذه الكيفية، ومن هذا المنظور، وإن كنت خلال تأملاتي وجدت معاني متعددة قد ارتبطت بتراثنا الإسلامي والتربوي الزاخر تعكس هذا المعنى وتجليه، كالتربية بالقدوة وغيرها، غير أن إيكولوجيا المفهوم أعمق من ذلك، وأكثر تشعباً؛ فانتظرونا في إطلالاتنا القادمة آملاً من الجميع أن يثري هذه المحاولة بالتعليقات، والملح عسانا نخرج بشيء مفيد، يعود علينا بالخير والبركة، ويعود على الجيل بالخير في أخلاقه ومعاملاته، وأن يخرج الأتباع من ظاهرة الإمعية التي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، من خلال إدراكنا لما تحدثه بيئة المفهوم أحيانا من تشوهات للمفاهيم الصحيحة في حياتنا، على أن نطرح ما جدّ حديثاً في الساحة التربوية من محاولات للاستفادة من الأخطاء المفاهيمية في تطوير المفاهيم المرغوبة دون التصادم معها، كما سنبينه لاحقاً، آملاً أن أستطيع بعد توفيق الله أن أعرض الموضوع بطريقة مبسطة ميسرة يسهل فهمها، والاستفادة منها.

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

أنت فينا يا أبي ما حيّينا

والدي..
رجل عظيم.. ليس لأنه والدي، ولكن لأنني كلما مررت من مكان مر به قبلي وجدت له أثراً، وكلما قابلت أحداً يعرفه أثنى عليه حتى وجدتني صغيراً إلى جواره، والدي الحبيب، لا زلت أذكر تلك اللحظات وهو يعلمني يمسك يدي ليدربني على الإمساك بالقلم، يعلمني الحساب، ويعلمني الكتابة والقراءة، لا زلت أذكر قصيدة درستها في الصف الرابع الأساسي، في كتاب القراءة والنصوص، لا زال صدى صوته يرن في أذني وهو ينشدني أشرق الصبح وغنت بالأهازيج الطيور، كل حي حين لاحت شمسنا حياه نور، ذلك الفلاح قام يسعى في ابتهاج وسرور،، نعم لا زالت نبرات صوته، وتنغيماته للأبيات، تقطيعها بشكل موسيقي جميل، وهو يعلمني كيف ألقيها كشعرٍ رصين وليس كأغنية يتغنى بها الصبية كما اعتدت أن أفعل وأقراني في ذلك الوقت، لا زلت افتخر بقدرتي على الإلقاء، ومهارتي في الخطابة، وأنا في حقيقة الأمررمدين له بهذا، مدين له به مرتين مرة لأنه علمنيه، ومرة لأنه حببني فيه.
نعم ففضله علي لا يكاد يحصى، لا زلت أفتخر بمقدرتي في اللغة الانجليزية، وهو معلمي الأول الذي علمني اياها، ولولاه لكنت كما غيري لا أعرف منها إلا النذر اليسير، ولما كبرت تعلمت أنه كان قد حمل عني حملاً كبيراً، فقد كان يكفيني حمل مجاملة الناس، وكان يكفيني حمل إخواني وأخواتي، وكان يكفيني حمل تحمل المسئولية في كثير من القرارات، فقد كان مستشاري الأول، وقد كانت مشورته دائماً صائبة، وان اختلفت معه أحياناً لكن الحياة علمتني أن اختياراته كانت أصوب من خاصتي.
لو قضيت الدهر كله اسرد مآثره ومحامده، ومناقبه ما كفاني ذلك فيه ليس لأنه والدي، ولكن لأن الرقي والأخلاق كانت رداؤه ولباسه، وديدنه، ولأنه غرس فينا حب الناس، وحب الخير، والتفاني لخدمة شعبنا وأمتنا، ووطننا..
أحن إليك يا أبي، وأحن إلى نظرتك الحانية، وأحن إلى توجيهاتك التي طالما أراحتني من التفكير، ورسمت لي معالم الطريق، وأضاءت لي ما أدلج منها.
رحمك الله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وغسلك بالماء والثلج والبرد، ونقاك من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أبتاه أنت فينا ما حيينا لا تغيب.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

مسارُ تجاوزِ الحُسَّادِ

اثناء تصفحي للفيس بوك تكرر أن كتب أحد معارفي عبارات يلوم فيها الناس، ويسب فيها أخلاقهم، ويشكو فيها انتهازيتهم، ويرسم صورة يغلب عليها السواد، وتنبعث منها رائحة التخوين، وتهتز من جوانبها كل معاني الثقة في الآخر.
جوٌ كئيب تتركه كلماته في قلبي، وتغلب علي مشاعر الشفقة نحوه، وأتمنى لو استطعت أن امسح على رأسه، أو أربت على كتفيه، أو أواسيه بكلمة رغم قناعتي بأن ذلك لن يجدي معه نفعاً، فكان أن خطرت لي بعض المعاني التي قد تنفع مع من يشعر بتلك المشاعر فالراسخ أن الدنيا ليست دار استمتاع، ولا دار مقام، بل هي دار كفاح، وزرع، وهي دار ممر لا دار مقر، وافتراض الخير في الناس كلهم، وتوقع تفانيهم في خدمتك وايثارهم لك على أنفسهم سبب كل تلك المشاعر الحزينة، لأنك عند أول احتكاك بشخص ليس على مستوى توقعاتك، أو وضعته في منزلة أكبر من تلك التي يوليك إياها، أو التي يستحقها سوق تصدم، وأنا أزعم أن كل واحد منا واجه مثل هذا الموقف إن لم يكن مرة فمرات.. فليست تلك نهاية الدنيا، ولا ختام المطاف.
بل أقول لكل من شعر بأن من حوله يخذلونه، أو شعر بكثرة الحساد من حوله لنجاحه وتفوقه، أقول له لم تكن الحياة يوماً ناعمة ولا ملساء، بل يكافح العظماء وينحتون الصخر، ولا يشغلون أنفسهم بالعويل والبكاء، ولا بالشكوى والتذمر، بل يشقون طريقهم بكل قوة نحو أهدافهم التي يعرفونها، ولا يحيدون عنها، ليغتاظ حسادهم، ويفرح أحبابهم، فيبلغون القمة فيما حسادهم منشغلون بإعاقتهم فيبقى الحساد في أماكنهم، وتواصل أنت تقدمك، فلما تبلغ القمة لا يسع الحاسد إلا أن يجر نفسه خلفك ليتبعك، خصوصاً عندما يرى التفاف أحبابك من حولك، فتكون أنت في بؤرة الحدث، ويطوف حولك من أحبك ومن حسدك، وتسمو أنت بأخلاقك حين تعامل الجميع بكرم وإحسان، وتنسى إساءة من أساء وتربط قلبك بمن وسعت رحمته كل شيء، فيمدك بقبس منها فتسع من أساء إليك ويشمل إحسانك الناس كلهم، وتعلو وتسمو، وتتولى أنت القيادة بأخلاقك وشيمك، وبتوفيق الله لك، وبعد كل هذا لا بد وأن يسكن قلبك تواضع جم حتى لا ينصرف عنك الخيرون، وحتى لا يضيع ثواب كل ذلك التعب، وتبقى أنت في المقدمة بمنّ الله وفضله، وبعلوك الروحاني الذي لولاه ما سموت، ولا علوت، ولا تبؤأت مكانتك.

الاثنين، 7 نوفمبر 2011

إيابُ يسكّن الرّوع

فرع في هواء.. كلمة كثيراً ما ترددت على مسمعي وسمعتها مرة بعد مرة، كثيراً ما تخيلت الكلمة  وصورتها أو تصورتها، كأنها ماثلة أمامي فرع في هواء، لا ساق تحمله، ولا جذور تثبته، ولا ثمرٌ مهيؤٌ للنضج يزينه، فرع في هواء، نكرة لا تعرف له أصلاً، ولا نسباً، أو قل غريب في أرض بعيدة، المرء بعيداً عن أهله وعشيرته، وبعيداً عن وطنه الذي ترعرع فيه فرع في هواء، صحيح أنني لم أشعر يوماً أنني غريب في مصر الحبيبة إلى قلبي والتي أعشقها كما لم ولن أعشق بلداً أخرى، لكن لا مكان كالوطن.
ما أن وطأت قدماي أرض غزة حتى انتابني شعور لا أدي كيف أصفه، لكنه وبكل تأكيد نفس شعور الطير حين تأوي إلى أيكها، وهو ذات شعور الطفل الرضيع في حضن أمه، فقد استشعرت دفأها، كأنما احتوتني أرضها واحتضنتني ومسحت بيديها على رأسي، شعرت بحنان أرضها الطاهرة المقدسة، وشعرت بذلك الانتماء لطينتها، ورملها، وحصاها.
شعرت بأني ذلك الفرع كنت في هواء، وإذا بي أعود إلى أصلي وأوضع في ساقي التي هجرت، واتصل من خلالها بجذوري التي رسخت في تلك التربة الطاهرة لتسقيني ماء الوصال، وتذهب ظمأ عشقي الذي طال، فأغرد مع طيرها نشيد الحب الأبدي.
حنين غمر فؤادي وانتماء فاض من كل حناي، ليملأني راحة وطمأنينة، ولتقر عيني ويهدأ بالي، خصوصاً بعد غربة دامت شهراً وتسعة أيام.
آه كم تقت للمسة منك، كم اشتقت لنظرة إليك، كم تعطشت لرشفة من ماءك، وكم وكم وكم!!!
كأنما بعثت من جديد بعد موت طال طويلاً، وكأنما نفخت في الروح بعد انسلاخها، وكأنما أدخلت جنة عدنٍ دون حساب، عشق فلسطين لا تحده الكلمات، ولا تعبر عنها فصاحة العبارات، ولا يشعر به إلا من عرف قيمتها، وعشق تربها، وتلفح غبارها، واستنشق عبيرها..
يا بحر غزة كم استوحشت بعيداً عنك، موجاتك المتتابعة كانت تتراءى أمام ناظري صباح مساء، كنت أرمقها في أحلامي، كنت اسمع صوت هديرها في وسط الزحام، وشمس اصيلك كانت تداعب أجفاني عند المنام، في صحوي في انتباهي في غفوتي في منامي دوما كانت غزة ترقد في سويداء القلب هادئة تبث الأمل، وتبعث فيّ همة تجاوز حدود العقبات، همة لا تُرى نهايتها بل ينتهي أفق رؤياك دون أن ترى لها نهاية تماماً كما بحر غزة.
أتدرون شعوري لا أظنكم تعلمون...
أسمعتم قصة المرأة التي وجدت طفلها في السبي فألزقته ببطنها رحمة منها، أنا ذلك الطفل، وفلسطين تلك الأم، أشعر بشعور ذلك الطفل في حضن أمه، وأشعر بحنين ترب فلسطين كما حضنها تماماً،، اللهم أعد لنا فلسطين كلها عاجلاً غيرآجل يا رب العالمين...
وامنن يا رب بالإياب على كل مغترب، واجمع شمل من تفرق من الأحباب، ومن ابتعد عن الديار... اللهم آمين.

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2011

حنانٌ شاحذ لا إشفاق مثبّط


كثيراً ما نشفق على الآخرين لما نرى مصاباً ألم بهم، نحاول أن نظهر التعاطف معهم، والوقوف إلى جانبهم، فتنهال كلمات الشفقة والتضامن على المصاب كسيل العرم، يستقبل كلماتنا في البداية بتفهم، وأحياناً يكون من أصحاب الاعتداد بالنفس فيردنا بلطف مع بداية كلماتنا، لكن البعض يمضي يبالغ في إشفاقه حتى يكاد يقتل صاحب المصيبة ويزيد همه، حتى يكاد يخلع قلبه، وكلما كان المصاب معتداً زاد ألمه من هذا الإشفاق المؤلم.

وأحياناً لا يكون المصاب منتبهاً لمصابه، بل وربما لا يدري أنه مصاب فيأتي المشفقون المبالغون لينبهوه إلى تبعات لم يكن يعلمها، فيحملونه هماً أكبر من ذاك الذي كان يحمله، فقد ينهار ان كانت مقاومته ضعيفة، أو ينكر وربما ينفعل عليهم ان كان من اصحاب الاعتداد الذين تحدثنا عنهم في غرة هذه الخاطرة.
على كل حال قاعدة تثبت نفسها في كل مرة، لا شيء مثل التوازن، فاظهار التعاطف مطلوب لكن المبالغة فيه جارحة، ومحبطة، ومؤذية، وتؤتي بعكس النتائج المتوقعة، بل وقد تظهر من رام التقرب للمصاب في صورة الشامت الذي يريد تحطيم معنوياته، فلا داع لتلك الشفقة القاسية، ولا لهذا الحنان المؤلم، وخير الأمور أوسطها، فلا بأس أن نظهر قليلاً من التعاطف، لكن مجبولاً برفع الهمة، وبث الأمل، والقفز عن واقع الحال، فإنه أدعى لتشجيع المصاب، وتحفيزه على تجاوز محنته، وتصغير ما ألم به في عينيه، وشحذه بتلك القوة التي لا تقهر القوة الداخلية خصوصاً لو مزجت بتلك المعاني الروحانية، والقرب الإلهي، والاصطفاء لأصحاب الابتلاء، وما أعد لهم سبحانه من أجر، ورفعة، وتكفير ذنوب..